فصل: مسألة الذي يبيع الخمر لا تجوز شهادته:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة الشهادة على الشهادة في الزنى:

قال ابن القاسم: في الشهادة على الشهادة في الزنى لا تجوز حتى يشهد أربعة على أربعة في موضع واحد ويوم واحد وساعة واحدة في موقف واحد على صفة واحدة.
قال محمد بن رشد: ليس من شرط صحة الشهادة على الزنى تسمية الموضع ولا ذكر اليوم والساعة، وإنما من شرط صحتها عند ابن القاسم ألا تختلف الشهود في ذلك، فإذا شهد أربعة على رجل بالزنى فقالوا: رأيناه معا يزني بفلانة غائبا فرجه في فرجها كالمرود في المكحلة تمت الشهادة، وإن قالوا: لا نذكر اليوم ولا نحد الموضع، وإن قالوا في موضع كذا وساعة كذا من يوم كذا كان أتم في الشهادة، وإن اختلفوا في الموضع أو في الأيام فقال بعضهم: كان ذلك في موضع كذا، وقال بعضهم: بل كان في موضع كذا، أو قال بعضهم: كان في يوم كذا، وقال بعضهم: بل في يوم كذا بطلت شهادتهم عند ابن القاسم وجازت عند ابن الماجشون، قال: لأنهم اختلفوا فيما لو لم يذكروه لتمت الشهادة ولم يلزم الحاكم أن يسألهم عنه، فيحتمل أن يريد أنه لا يلزمه أن يسألهم عن ذلك إذا اتفقوا على أن رؤيتهم إياه إنما كانت معا في زنى واحد، ويحتمل أن يريد أنه لا يلزمه أن يسألهم عن ذلك بحال إذا شهدوا عنده فقال كل واحد منهم: إنه رآه يزني كالمرود في المكحلة، ويكون من مذهبه أن الأفعال تلفق في الشهادة كما تلفق الأقوال خلاف ما ذهب إليه ابن القاسم من أنها لا تلفق كما تلفق الأقوال، والأول أبين، ولا تجوز شهادة أربعة على أربعة في الزنى إلا إن شهد الأربعة معا على شهادتهم كل واحد من الأربعة أنهم رأوه معا يزني بفلانة فرجه في فرجها كالمرود في المكحلة، وإن تفرق إشهادهم لهم مثل أن يشهدوا اليوم أحدهم، وغدا الثاني، وبعد غد الثالث، والذي يليه الرابع، وأما إن تفرقوا في الإشهاد مثل أن يشهد أحدهم اليوم على شهادته جميع الأربعة ثم يشهدهم الثاني غدا، ثم الثالث بعد غد ثم الرابع في الذي يليه فلا يجوز ذلك إلا على القول بجواز تفرق الشهود في تأدية الشهادة على الزنى، وقد مضى ذكر الخلاف في ذلك في أول رسم من هذا السماع؛ لأن الإشهاد على الشهادة كتأدية الشهادة فيما يلزم فيها، وإن لم يسمع الأربعة من جميع الأربعة وإنما سمعوا من بعضهم جاز أن يسمع من الباقين شاهدان كان الباقون واحدا أو اثنين أو ثلاثة، فلابد في الشهادة على الشهادة من أربعة على جميع الأربعة أو اثنين اثنين على كل واحد منهم إن تفرقوا فلا يجزئ أقل من أربعة، ولا يحتاج إلى أكثر من ثمانية، ويجوز في تعديلهم أيضا اثنان على كل واحد منهم أو أربعة على جميعهم، هذا مذهب ابن القاسم، وبه قال ابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ، وقال مطرف عن مالك: لا يجوز في الشهادة على الشهادة في الزنى إلا ستة عشر شاهدا أربعة على كل واحد من الأربعة تفرقوا أو اجتمعوا، ولا يجزئ في تعديلهم إلا أربعة على كل واحد منهم فيكونون ثمانين فيما بين الشهود والمعدلين، ويريد ابن القاسم بقوله في موضع واحد ويوم واحد وساعة واحدة أن يكون الزنى الذي شهد عليه الأربعة زنى واحدا، ويريد بقوله في موقف واحد أن يشهدوا كلهم معا على شهادتهم لكل واحد من الشهود الأربعة وأن يؤدي الشهود الأربعة الشهادة على الشهادة عند الحكم معا غير مفترقين، وقد قيل: إنهم إن تفرقوا في ذلك جاز، وقد تقدم ذكره، فإن شهد أربعة على أقل من أربعة أو أقل من أربعة على أربعة كانوا قذفة يحدون إلا أن يأتوا بما يوجب الحد على المشهود عليه، وذلك أربعة سواهم يشهدون على شهادة أربعة أو على معاينة الزنى على القول: بأنه لا يجوز تفرق الشهود في تأدية الشهادة في الزنى، وأما على القول بأنه جائز فيجزئهم إن كانوا ثلاثة أن يأتوا بشاهد يشهد معهم على شهادة الأربعة أو على شهادة نفسه، وقد زدنا هذا المعنى بيانا وتحصيلا في كتاب الرجم من كتاب المقدمات، وبالله التوفيق.

.مسألة أمي قرئ عليه كتاب فقال أشهد على ما فيه:

ومن كتاب أوله إن خرجت من هذه الدار:
سئل عن رجل أمي قرئ عليه كتاب فقال: أشهد على ما فيه، أتجوز شهادته وهو لا يصف ما فيه حتى يقرأ عليه؟ قال: نعم، تجوز شهادته، وليس كل الناس يسوقون كل ما أشهدوا عليه وإن كان ممن يكتب حتى يقرأ الكتاب، فإذا قرأه عرف شهادته وحفظها، ولو قيل له بعدما يقرأها أيستظهرها ما استظهرها، فإن كان عدلا وأثبت ما قرئ عليه جازت شهادته.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه ليس على الشاهد أن يستظهر الكتاب الذي وضع فيه شهادته، وحسبه أن يعرف ما تضمنه إذا قرئ أو قرأه فيقول: أشهد بما فيه، وهذا في الاستراعاءات التي تكتب على معرفة الشاهد فيضع فيه شهادته ثم يشهد بما تضمنت، وهذا إذا كان الشاهد من أهل اليقظة والفهم بمعاني ما تضمنه الكتاب إذا قرأه أو قرئ عليه، وأما إذا كان على غير هذه الصفة فلا ينبغي للحاكم أن يجيز شهادته إلا أن يؤديها لفظا فيقيدها عند الحاكم أو كاتبه على ما يشهد بها، وأما ما يشهد به المتعاملان على أنفسهما فليس على الشاهد أن يقرأ الكتاب ولا أن يقرأ عليه إن كان أميا، وحسبه إذا ذكر الشهادة أن يقول: أشهدني فلان وفلان على ما في هذا الكتاب عنهما وإن لم يقرأه ولا عرف ما فيه إلا أن يكون الشاهد من أهل العلم فيستحسن له إذا شهد على شيء مكتوب في كتاب أن يقرأه لئلا يكون فيه فساد، فإن رأى فيه فسادًا نبّه عليه فاستدرك فسخه قبل فواته، وبالله التوفيق.

.مسألة الذي يبيع الخمر لا تجوز شهادته:

سئل: عن رجل شهد بشهادة على رجل فقال المشهود عليه: إن هذا الشاهد علي له حوانيت يؤاجرها من الخمارين، وأتى عليه بشهيدين، وذكر الشاهد أنه قد حبس تلك الحوانيت على امرأته وأتى عليه بشهود، قال: إن شهدوا عليه أنه يتولى كراءها ردت شهادته ولم تقبل ولا نعمى عين؛ لأن الذي يلي الحرام لغيره كالذي يليه لنفسه، بل الذي يليه لنفسه لو كان يعذر لكان أعذر فلا تقبل شهادته ولا ينعم عينا.
قال محمد بن رشد: في هذه المسألة ثلاثة أقوال؛ أحدها: هذا أنها جرحة تبطل شهادته.
والثاني: قول محمد بن إبراهيم بن دينار الذي في المدونة والمبسوطة أنها ليست بجرحة تبطل شهادته، قال: أما الذي يبيع الخمر فلا تجوز شهادته ولا ينعم عينا، وعليه العقوبة الموجعة، وأما الذي يكري بيته فلا أرى أن ترد شهادته.
والثالث: قول ابن القاسم في المدنية والمبسوطة أيضا أن شهادته لا تجوز إلا أن يعذر بجهل، قال: أما الذي يكري بيته من خمار أو يبيعه ممن يبيع فيه خمرا فإنها لا تقبل شهادته إلا أن يعذر بجهل، وإنما لم يجز ابن القاسم شهادة من يكري حانوته ممن يبيع فيها خمرا؛ لأن فعل ذلك عون على ما لا يحل من بيع الخمر التي لعن الله عز وجل على لسان نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من استباحه فقال: «لعن الله الخمر وعاصرها ومعتصرها وبائعها ومبتاعها وحاملها والمحمولة إليه وشاربها وساقيها وآكل ثمنها» فالعون على ما لا يحل لا يحل، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]. لا أنه رأى الكراء عليه حراما كثمن الخمر، وذلك بين من قوله: لأن الذي يلي الحرام لغيره مثل الذي يليه لنفسه إلى قوله: لكان أعذر؛ لأن الكراء لو كان عليه حراما كثمن الخمر لكان الذي يتولاه لنفسه أشد من الذي يتولاه لغيره لا محالة، ولما لم يكن الكراء عليه حراما كثمن الخمر لم يسقط ابن دينار شهادته، وجعله من الذنوب التي لا تسقط الشهادة، وقول ابن القاسم أظهر؛ لأن مثل هذا ليس من شيم أهل العدالة لاسيما وقد قيل: إن الكراء عليه حرام لا يحل له كثمن الخمر، والأظهر أنه ليس هو عليه حرام كثمن الخمر، وإنما يؤمر بالصدقة به على سبيل التورع ويفعل ذلك الإمام به على سبيل الأدب له، ووجه قول ابن القاسم في المدنية والمبسوطة أنه لما كان هذا الفعل قد يمكن أن يظن الجاهل أنه سائغ له وأن الإثم فيه إنما هو على بائع الخمر في الحانوت لا عليه؛ لأنه أكرى منه ما يجوز له كراؤه من غير عذره بالجهل، وهو أعدل الأقوال وأولاها بالصواب، وأما الذي يبيع الخمر فلا اختلاف في أن شهادته لا تجوز، وكذلك في كتاب الرجم من المدونة أن الذي يعصر الخمر ويبيعها لا تجوز شهادته وإن كان لا يشربها، قال مالك في المجموعة وكتاب ابن المواز ولو باعها عصيرا لم ترد شهادته، وبالله التوفيق.

.مسألة شهادة الشريك على شريكه:

وسئل: عن الرجلين يكونان شريكين جميعا متفاوضين يبيع أحدهما من رجل سلعة ويوجهها له وشريكه حاضر شاهد على بيعه ثم يخالف إلى السلعة ذلك الشريك الذي باعها فيبيعها من رجل آخر وينفذها له فيبيع المشتري الأول السلعة وليس له شاهد على الشراء إلا الشريك في السلعة الذي حضر حين باعها، هل ترى شهادته جائزة؟ أم هل ترى له أن يأخذ من فضل ما باعها به شريكه على الثمن الأول الذي كان باعها به أولا إذا جحد شريكه البيع وهو شاهد عليه؟ وكيف إن كان للمشتري الأول بينة على الشراء وقد باع المشتري السلعة بفضل هل يكون له ذلك الفضل؟ فقال: شهادة الشريك غير جائزة على شريكه، وأرى إن كان قد باعها شريكه بأكثر من الثمن الأول أن لا يأخذ من ذلك الفضل شيئا وإن كان للمشتري بينة على الشراء منه وقد فاتت السلعة من يد الذي اشتراها بفضل باعها به فأرى ذلك الفضل للمشتري الأول؛ لأنه ثمن سلعته، والمشتري مخير إذا كانت له بينة، وقد فاتت في قيمتها وفي الثمن الذي باعها به يكون مخيرا في ذلك على بائعها.
قال القاضي: قوله: إن شهادة الشريك غير جائزة على شريكه يريد في نقض البيع الثاني ورد السلعة إلى المشتري الأول صحيح؛ لأن ما باع شريكه فكأنه هو قد باعه؛ لأن شريكه وكيل له على البيع، ويد الوكيل كيد الموكل فصار في شهادته كمن باع سلعة من رجل ثم شهد لغيره أنه باعها منه قبل ذلك، وأما شهادته على الفضل للمشتري الأول فذلك جائز؛ لأنه شهد على نفسه وعلى شريكه بفضل في أيديهما أنه للمشتري الأول، فعليه أن يدفع إليه حصته من الربح ويحلف مع شهادته على الشريك فيأخذ منه نصف الربح الآخر؛ لأن السلعة سلعته فله أن يجيز البيع ويأخذ الثمن، وهذا بين، وأما إن كان للمشتري بينة على الشراء منه وقد فاتت السلعة من يد الذي اشتراها بفضل باعها به، فقوله: إن الفضل للمشتري الأول؛ لأنه ثمن سلعته بين صحيح، وقوله: إن المشتري مخير إذا كانت له بينة وقد فاتت في قيمتها وفي الثمن الذي باعها به يريد في قيمتها يوم تعدى عليها البائع وفي الثمن الذي باعها به وإن كان المبتاع الثاني قد باعها ففاتت في يد المبتاع الثالث كان مخيرا في أخذ أي ثمن شاء، وفي أن يضمن البائع الأول قيمتها، فإن ضمن البائع الأول قيمتها وأخذ منه الثمن جازت البيعتان جميعا، وإن أخذ الثمن الثاني انتقضت البيعة الأولى؛ وإن ألفاها قائمة بيد المشتري الثالث كان مخيرا بين أن يأخذ سلعته فتنتقض البيعتان جميعا أو يأخذ الثمن الأول فتجوز البيعتان جميعا، أو يأخذ الثاني فتنتقض البيعة الأولى، وبالله التوفيق.

.مسألة توفي فقامت تدعي ما في البيت من متاع النساء والرجال:

وسئل: عن الذي يشهد لامرأته إن كان شيء تغلق عليه باب بيتها فهو لها، فقال: سواء أشهد لها أو لم يشهد لها، ما في البيت مما يعرف أنه متاع النساء فهو لها إلا أن يكون اشترى لها من متاع الرجال شيئا فأشهد لها أنه إنما يشتريه لها.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن المشهد لامرأته بهذه الشهادة توفي فقامت تدعي ما في البيت من متاع النساء والرجال فلم ير لها فيما أشهد لها به منفعة إذ لم يشهد لها على شيء بعينه أنه لها، وإنما أشهد لها بما في بيتها، ولعل ما تدعيه من متاع الرجال لم يكن في بيتها يوم الإشهاد فقال: سواء أشهد لها أو لم يشهد لها، ما في البيت مما يعرف أنه من متاع النساء فهو لها، يريد وما كان فيه من متاع الرجال فهو لورثته إلا أن يكون اشترى لها من متاع الرجال شيئا فأشهد لها أنه إنما يشتريه لها، وفي قوله: إلا أن يكون اشترى لها إلى آخر قوله، دليل على أنه لو أشهد لها على شيء بعينه من متاع الرجال أنه لها لم يكن لها، وفي ذلك نظر؛ لأنه إن لم يعلم أصل الملك له صح الإقرار لها، وإن علم أصل الملك له كان إقراره هبة تصح لها بحيازتها إياها؛ لكونها في بيتها وتحت يدها إلا على ما في سماع أشهب من كتاب الصدقات والهبات في نحو هذه الحيازة والقياس على مذهب ابن القاسم؛ لأن يد الزوج عنده هي المغلبة على يد الزوجة إذا اختلفا فيما هو من متاع الرجال والنساء، ولو قامت في حياته تدعي ما في بيتها من متاع الرجال وتحتج بما أشهد لها به من أن جميع ما في بيتها لها، فناكرها في ذلك وادعاه لنفسه وزعم أنه لم يكن في بيتها يوم أشهد لها بما أشهد وأنه إنما اكتسبه بعد ذلك لوجب أن ينفعها الإشهاد ويكون القول قولها مع يمينها إلا أن يقيم هو البينة أنه اكتسب ذلك بعد الإشهاد، ويحتمل أن يكون معنى المسألة أنه أشهد لها بذلك في مرضه الذي مات منه فلا يكون في بطلان الشهادة إشكال، ولا في أنها لا يكون لها من متاع الرجال إلا ما أشهد عند اشترائه أنه إنما يشتريه لها كلام، وبالله التوفيق.

.مسألة قال امرأته طالق واحدة إن دخل دار عمرو بن العاص:

ومن كتاب حمل صبيا على دابة:
قال ابن القاسم في رجلين شهدا على رجل أنه أشهدهما في رمضان أنه طلق امرأته واحدة، وشهد رجلان آخران أنه أشهدهما في شوال أنه طلق امرأته واحدة، وشهد رجلان آخران أنه أشهدهما في ذي القعدة أنه طلق امرأته واحدة أنها ثلاث تطليقات، ولا يدين إذا اختلفت الأيام والمجالس، وكذلك إذا شهدوا أنه أشهدنا على طلقة طلقة لزمت ثلاث ولا يدين، قال: وكذلك أيضا لو قال امرأته طالق واحدة إن دخل دار عمرو بن العاص، ثم قال من الغد عند قوم آخرين امرأته طالق واحدة إن دخل دار عمرو بن العاص، ثم قال من الغد عند قوم آخرين امرأته طالق واحدة إن دخل دار عمرو بن العاص أنه تلزمه ثلاث تطليقات، وهو بمنزلة لو أن رجلا أشهد على نفسه قوما أن عليه لفلان مائة دينار، ثم أشهد آخرين من الغد أن لفلان عليه مائة دينار، ثم أشهد آخرين من الغد أن عليه لفلان مائة دينار أنه يلزمه ثلثمائة دينار إن طلبها ولي الحق، وفي سماع أصبغ في النكاح الأول قال أصبغ: يعني إذا شهدوا عليه بمائة ثم مائة مفترقين وادعى أنها مائة واحدة، قال أصبغ: وأنا أرى غير ذلك كله، أما الطلاق فأرى أن يحلف ويدين ولا يكون عليه إلا طلقة واحدة إلا أن يجدد الطلاق عند كل شهيدين فيقول: اشهدوا أنها طالق ويقع الإشهاد عليه كذلك فتكون الشهادات طلاقا طلاقا فيكون بتاتا، وأما أن يقول: اشهدوا أني قد طلقتها فيدين ويترك، وأما الحق فإني أرى إن كان له كتاب في كل شهادة فهي أقوال مختلفة، وإن كان كتابا وأحدا فهو حق واحد، وإن كان بغير كتاب أصلا إنما كان يشهد مجملا هاهنا وههنا فمائة واحدة ويحلف، وكذلك إذا تقارب ما بين ذلك مثل أن يشهد ههنا، ثم يقوم إلى موضع آخر، فيشهد، ثم يتحول إلى موضع آخر فيشهد آخرين.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه الرواية: إنه يلزمه ثلاث تطليقات ولا يدين إذا شهد عليه شاهدان بطلقة وشاهدان بطلقة وشاهدان بطلقة في أوقات مختلفة يأتي على قياس قول ربيعة في المدونة أنه إذا شهد عليه شاهد بطلقة وشاهد بطلقة وشاهد بطلقة في أوقات مختلفة إن الشهادة لا تلفق في ذلك ويحلف ما طلق ولا يلزمه شيء، وأما على القول بأن الشهادة تلفق فيلزمه طلقة واحدة لاجتماع الشاهدين عليها ويحلف فيما زاد، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة، وقوله في رسم القطعان بعد هذا فينوى في هذه المسألة، وهو قول مالك في رسم الأقضية من سماع أشهب من كتاب الأيمان بالطلاق، وقد مضى القول على ذلك هنالك مستوفى، وكذلك قوله في هذه الرواية إن الرجل إذا أشهد على نفسه شهودا بمائة دينار لفلان ثم أشهد آخرين من الغد بمائة، ثم أشهد من الغد آخرين له بمائة تلزمه ثلثمائة إن طلبها ولي الحق يأتي على القول بأن الشهادة لا تلفق إذا شهد للرجل شاهد أن فلانا أقر له بمائة في يوم كذا، وشهد شاهد آخر أنه أقر له من الغد بمائة وشهد ثالث أنه أقر له من الغد بمائة فيحلف مع كل شاهد ويستحق ثلثمائة، وأما على القول بأن الشهادة تلفق في هذه المسألة فيأخذ مائة واحدة باجتماع الشهود عليها بتلفيق الشهادة ويحلف المطلوب ما له عليه شيء، أو ما له عليه إلا مائة واحدة أشهد له بها شاهدا بعد شاهد بعد شاهد ولا يلزمه شيء غيرها فيأخذ في مسألة الكتاب مائة واحدة ويحلف المطلوب أنه ما له عليه إلا مائة واحدة أشهد له عليها شهودا بعد شهود، فإن نكل عن اليمين حلف الطالب أنها ثلاثة حقوق وأنها ثلثمائة، وإن أنكر أن يكون له عليه شيء أصلا أدى الثلثمائة ولم يكن على الطالب يمين، وقوله في الكتاب: إنه يلزمه ثلثمائة إن طلبها ولي الحق يريد بعد يمينه أنها ثلاثة حقوق، فإن نكل عن اليمين حلف المطلوب أنها حق واحد وأدى مائة واحدة.
وتفرقة أصبغ بين أن يقول أشهدكم أنها طالق أو أشهدكم أني قد طلقتها واحدة ينبغي أن يحمل على التفسير لقول ابن القاسم، وإن كانت مخالفة لظاهره، وأما تفرقته في الحق بين أن يكون كتاب واحد في جميع الشهادات أو كتاب في كل شهادة فهي تفرقة صحيحة لا اختلاف في أن الرجل إذا أتى إلى القوم بكتاب عليه فيه مائة دينار فأشهدهم على نفسه به، ثم أشهد على الكتاب بعينه بعد مدة قوما آخرين، ثم بعد مدة قوما آخرين أنه حق واحد، وكذلك لا اختلاف في أن الرجل إذا أتى بكتاب عليه فيه مائة دينار إلى قوم فأشهدهم على نفسه به، ثم أتى بكتاب آخر إلى قوم آخرين عليه أيضا فيه مائة دينار فأشهدهم على نفسه به، ثم أتى بكتاب آخر إلى قوم آخرين عليه فيه أيضا مائة دينار فأشهدهم على نفسه فقام الطالب بالكتب الثلاثة أنه يقضي له بثلثمائة دينار، وإنما مسألة الخلاف إذا أشهد شهودا بعد شهود بغير كتاب وبينهما مدة من الزمان، وإن كتب صاحب الحق بما أشهد عليه كل جماعة كتبا على حدة لم يخرج بذلك عن الخلاف، وبالله التوفيق.

.مسألة خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها:

ومن كتاب أوله شهد على شهادة ميت:
وسئل عن شاهد شهد على مال من الأموال غير الفروج والحرية من حيوان أو عقار يعلمه لرجل ويرى الذي هو بيده يبيعه ويهبه ويحوله عن حاله فلا يقوم بعلمه ثم يشهد عند القاضي أن هذه الدار والعرية يعلمها لفلان، فيقول له القاضي: ما منعك أن تقوم حين رأيت هذا المتاع يباع ويحول عن حاله بهبة أو صدقة؟ فيقول له الشاهد: لم يسألني أحد عن علمي، ولم أر فيها فرجا يوطأ ولا حرا يستخدم، ولم أكن علي أن أقاتل الناس ولا أخاصمهم، هل تدفع شهادته بذلك؟ أم هل الفروج والأموال في ذلك سواء؟ قال ابن القاسم: لا أرى شهادته مقبولة إذا كان حاضرا يرى الدار تباع والعقار لا يقوم بعلمه، وكذلك هو أيضا في الفروج والحيوان وغير ذلك إذا كانت هذه الأشياء تحول عن حالها بعلمه، وقال ابن وهب: بلغني عن ربيعة أنه قال في رجل شهد في عتق أو طلاق فأخفى شهادته حتى يبيع العبد واستحل في ذلك الحرام ثم جاء بعد ذلك يشهد وهو عدل لا بأس به قال: لا شهادة له إذا كان عالما أنه لا شهادة عنده لما أقر وأخبر ثم شهد بعد ذلك أن عنده شهادة فهو الذي لا شهادة له، ولعله ألا يسلم لما اجتمع من قوله وعلمه.
قال القاضي: قوله: لا أرى شهادته مقبولة إذا كان حاضرا يرى الدار تباع والعقار لا يقوم بعلمه معناه إذا كان المشهود له حاضرا لم يعلم بشهادة الشاهد؛ لأنه إن كان حاضرا عالما بشهادة الشاهد فهو الذي أضاع ماله إذ لم يقم بحقه فيدعو الشاهد إلى تأدية الشهادة إذ لا اختلاف في أنه لا يلزم الشاهد أن يقوم بشهادته لحاضر في المال حتى يدعوه إلى ذلك، قال الله عز وجل: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] وإنما الذي يلزمه ويحق عليه إذا رأى المال يفوت ويحول عن حاله أن يعلمه بأن له عنده شهادة، فإن لم يفعل كان ذلك جرحة فيه وبطلت شهادته على هذه الرواية، وكذلك قال مطرف وابن الماجشون، إنما تسقط شهادة الشهود إذا لم يكن عند طالب الحق علم بذلك، وأما إذا علم طالب الحق بعلمهم ولم يقم بهم فلا يضرهم، فقولهما تفسير لهذه الرواية في أن شهادة الشهود لا تبطل بتركهم القيام بالشهادة؛ إذ لا يصح لهم القيام بها مع حضور المشهود له حتى يدعوهم إلى القيام بها، وإنما تبطل بتركهم إعلامه بشهادتهم له، وكذلك الشاهد الواحد أيضا تبطل شهادته إذا أمسك عن أن يعلمه بشهادته على القول بالقضاء باليمين مع الشاهد في الأموال، وهو مذهب مالك لم يختلف فيه قوله، وأما على قول من لا يرى القضاء باليمين مع الشاهد فلا تبطل شهادته إذا أمسك عن إعلامه إلا أن يعلم أن معه شاهدا آخر، وما لم ير الشهود العقار والمال يفوت ويحال عن حاله فلا تبطل شهادتهم بالإمساك عن إعلام؛ لأن الإخبار بشهادتهم في هذا الموضع ليس بواجب وإنما هو مستحب؛ لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها أو يخبر بشهادته قبل أن يسألها»، قال غير ابن القاسم في المجموعة وكذلك إذا كان المشهود له غائبا تبطل شهادة الشهود إذا رأوا المال والعقار يباع ويحول عن حاله فلم يقوموا بشهادتهم.
قال محمد بن رشد: وهذا على القول بأن السلطان يوكل من يقوم للغائب بحقه، وهو أحد قولي ابن الماجشون، وروي ذلك عن أصبغ، وأما على القول بأن السلطان لا يمكن أحدا من القيام على غائب في حق يطلبه له ولا يسمع له بينة إلا بوكالة يثبتها عنده، وهو قول ابن الماجشون في الواضحة وقول مطرف حسبما مضى القول فيه في رسم الأقضية الثالث من سماع أشهب من كتاب الأقضية، فإنما على الشهود أن يخبروا الجيران بتعدي من تعدى على مال الرجل ويشهروا ذلك ويذيعوه، فإن فعلوا ذلك لم تبطل شهادتهم، وقد وقع لأشهب في المبسوطة ما ظاهره أن شهادة الشهود لا تبطل بالإمساك عن القيام بالشهادة كان الحق لله تعالى في طلاق أو حرية أو لمخلوق في مال من الأموال خلاف قول ابن القاسم في هذه الرواية في الوجهين، وهو بعيد؛ لأن ما يستدام فيه التحريم يلزم الشاهد القيام فيه بشهادته، ويأتي على ظاهر قول أشهب أنه لا يلزمه أن يقوم في ذلك بشهادته حتى يدعى إليها، وفي المسألة قول ثالث وهو الفرق بين حقوق الله تعالى وحقوق المخلوقين، وهو قول سحنون، قال: لست أرى ما قال ابن القاسم من ذلك يريد هذه الشهادة، ولا أرى ذلك إلا فيما هو لله وما يلزم الشاهد أن يقوم به وإن كذبه المدعي لذلك ويلزم الحاكم الحكم به، وذلك في الحرية والطلاق وأشباه ذلك، وأما العروض والرباع والحيوان التي يدعيها بعض الناس على بعض فلا تبطل شهادته في ذلك من قبل أن صاحبها إن كان حاضرا يرى ماله يباع ويوهب فهو الذي أضاع حقه وتركه، وإن كان رب المال غائبا لم يكن للشاهد شهادة إن قام بها، فمن أجل ذلك لم يضره ترك القيام بشهادته، وقول سحنون هذا هو أظهر الأقوال؛ لأن الحرية والطلاق وما أشبههما من حقوق الله يلزم الشاهد القيام بشهادته في ذلك، وإن لم يدع إلى القيام بها؛ لأنه يعلم بما عنده من الشهادة أن الحرام يستدام بإمساكه عن الشهادة ويقطع على ذلك فهو بتركه القيام مبيح للحرام، فالجرحة بذلك بينة، وما سوى ذلك من حقوق المخلوقين التي لا يتعلق لله بها حق كالعقار يعلمه للرجل فيراه بيد غيره يتصرف فيه بما يتصرف ذو الملك في ملكه لا يقطع بما عنده من الشهادة أنه ظالم ومتعد لاحتمال أن يكون الذي يعلمه له قد باعه منه أو وهبه له فلا يكون لهذا الاحتمال مجرحا بترك إعلام المشهود له بما له عنده من الشهادة إن كان حاضرا ولا بترك رفع شهادته إلى السلطان إن كان غائبا، وبيان هذا الذي ذكرناه أن الشهادة تنقسم على خمسة أقسام: شهادة لا يصح القيام بها إلا بعد الدعاء إليها وهي الشهادة للحاضر بالمال، فهذه الشهادة تبطل شهادة الشاهد فيها على هذه الرواية بتركه إعلامه المشهود له لا بترك رفعه شهادته إلى السلطان، وشهادة يلزم الشاهد القيام بها وإن لم يدع إليها وهي الشهادة بما يستدام فيه التحريم من الطلاق والعتق وشبه ذلك، فهذه تبطل شهادة الشاهد فيها بتركه رفع شهادته إلى السلطان إلا على ظاهر قول أشهب، وشهادة يختلف في وجوب القيام بها وفي رفع شهادته إلى السلطان إلا على ظاهر قول أشهب، وشهادة يختلف في وجوب القيام بها وفي صحته إذا لم يدع إليها، وهي الشهادة بالمال لغائب، فهذه الشهادة في بطلان شهادة الشاهد فيها بتركه الرفع إلى السلطان على القول بوجوب الرفع وصحته قولان، وشهادة لا يلزم القيام بها إذا لم يدع إليها وهي الشهادة على ما مضى من الحقوق التي لا يتعلق بها حق لمخلوق كالزنى وشرب الخمر وما أشبه ذلك، فهذا لا يلزم فيه القيام ويستحب فيه الستر إلا في المستهتر فلا تبطل شهادة الشاهد في ذلك بترك رفع شهادته إلى السلطان وإن كان المشهود عليه مستهترا باتفاق، وشهادة لا يجوز للشاهد القيام بها وإن دعي إليها وهي الشهادة التي يعلم الشاهد من باطنها خلاف ما يوجبه ظاهرها، وذلك مثل أن يأتي الرجل إلى العالم فيقول: حلفت بالطلاق ألا أكلم فلانا فكلمته بعد ذلك بشهر إلا أني كنت نويت في يميني ألا أكلمه شهرا، فهذا إن دعته امرأته إلى أن يشهد لها فيما أقر به عنده من أنه حلف بالطلاق ألا يكلم فلانا وأنه كلمه بعد شهر لم يجز له أن يشهد عليه بذلك، وقد مضى هذا في أول رسم من سماع عيسى، والله تعالى الموفق.

.مسألة الولادة لا يشهد فيها إلا النساء:

قال ابن القاسم: ومن قال أول ولد تلدينه فهو حر فولدت توأما فأرى شهادة النساء فيه جائزة؛ لأن الولادة لا يشهد فيها إلا النساء، وكذلك الاستهلال وكل ما لا يحضر ذلك من أمور النساء إلا النساء فإن شهادتهن جائزة وإن لم يثبت النساء شهادتهن لعتقا؛ لأنه يعتق من كل واحد منهما نصفه، فإذا كان يعتق من كل واحد منهما نصفه بالقضاء عتق عليه النصف الثاني بالسنة، كذا يقول أهل العلم.
قال القاضي: قوله: إن شهادة النساء تجوز فيمن ولد منهما أولا صحيح لا اختلاف فيه؛ لأن الولادة لا يحضرها إلا النساء، فجازت شهادتهن في ذلك كما تجوز في الاستهلال، وقوله: إنهما يعتقان جميعا إذا لم يثبت النساء أيهما ولد أولا صحيح أيضا، وأما تعليله لذلك بأنه لما كان يعتق من كل واحد منهما نصفه بالقضاء عتق عليه النصف الباقي بالسنة فهو تعليل غير صحيح، وإن كان ابن الماجشون قد جامعه عليه، فقال: يعتق نصف كل واحد منهما بالقول الأول ويعتق النصفان الباقيان بالاستتمام كمن أعتق نصف عبده فإنه يعتق عليه كله، وذلك أنه لم يعتق نصف كل واحد منهما، وإنما أعتق الذي ولد منهما أولا، فلما لم يعلم من ولد منهما أولا وجب أن يعتقا جميعا؛ إذ لا يحل استرقاقهما مع العلم بأن أحدهما حر، ولا استرقاق أحدهما لاحتمال أن يكون هو الذي وجبت له الحرية بولادته أولا، كمن أعتق أحد عبديه أو طلق إحدى امرأتيه ثم شك فلم يدر أي عبديه أعتق ولا أي امرأتيه طلق أن العبدين يعتقان وأن المرأتين تطلقان، وكمن قال: أول عبيدي يدخل هذه الدار فهو حر فدخلها عبيده واحدا بعد واحد وجهل الأول منهم أنهم يعتقون كلهم، ولو كان يعتق أنصافهما بالقول الأول وباقيهما بالاستتمام لوجب إن لم يحكم بذلك حتى مات ألا يستتم عتقهما بعد الموت، وهذا لا يصح في هذه المسألة، فبان بهذا ضعف هذا التعليل، ومن أهل العلم من يقول: إنهما يعتقان جميعا ويكون عليهما نصف قيمتهما، ولم ير ذلك مالك ولا قال به هو ولا أحد من أصحابه، وبالله التوفيق.

.مسألة الشهيدين يشهدان عند القاضي فيزكي أحدهما صاحبه:

وعن الشهيدين يشهدان عند القاضي فيزكي أحدهما صاحبه هل يجوز ذلك؟ قال: لا تجوز تزكيته له؛ لأن التزكية شهادة، وقال مالك: لأنه إذا شهد وزكى فإنما هو الذي أثبت الحق وحده.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قاله؛ لأنه إذا زكى أحد الشاهدين صاحبه فلم يتم الحكم إلا بشهادة المزكي وحده، ولو زكيا جميعا شاهدا وشهد على شهادة آخر في ذلك الحق جاز ذلك على ما في نوازل سحنون، وبالله التوفيق.

.مسألة القاضي إذا عزل وقد شهد الشهود عنده وأثبت ذلك في ديوانه ولم يقم على ذلك بينة:

ومن كتاب أوله جاع فباع امرأته:
وسئل: عن القاضي يأمر ببيع التركة فتباع أو يقضي بالقضية ثم يعزل هل تجوز شهادته فيما قضى أو أمر به من بيع التركة؟ قال: قال مالك: لا تجوز شهادته وحده ولا مع غيره، قيل له: فإن قام شاهد واحد على أمر القاضي وقضائه هل يحلف مع شاهده؟ قال: لا يحلف مع شاهده على شهادته ولا يجوز في ذلك إلا شهيدان؛ لأنه من وجه الشهادة على الشهادة، والشهادة على قضاء القاضي شهادة على شهادة، فلا يجوز في ذلك إلا شهيدان.
قال الإمام القاضي: قوله: إن القاضي لا تجوز شهادته إذا عزل فيما قضى فيه أو أمر به من بيع التركة هو مثل ما في كتاب الأقضية من المدونة، وليس في ذلك ما يدل على أنه تجوز شهادته في ذلك قبل أن يعزل، بل لا تجوز في ذلك شهادته عزل أو لم يعزل، وإنما يجوز له قبل أن يعزل أن يسجل فيما قضى به ويشهد على ذلك ويخاطب بذلك ابتداء على وجه الإعلام والإخبار لا على وجه الشهادة، وقد مضى بيان هذا في رسم القضاء المحض من سماع أصبغ من كتاب الأقضية، وأما قوله: إن المقضي له لا يحلف مع الشاهد على أمر القاضي وقضائه فهو على خلاف أصله في المدونة؛ لأنه قال في الأقضية منها: إن القاضي إذا عزل وقد شهد الشهود عنده، وأثبت ذلك في ديوانه ولم يقم على ذلك بينة إن المشهود عليه يحلف بالله ما هذه الشهادة في ديوان القاضي مما شهدت به الشهود علي، فإن نكل عن اليمين حلف المشهود له وثبت له الشاهدان، فإذا كان يستحق ذلك باليمين مع النكول فأحرى أن يستحقه باليمين مع الشاهد، ولا فرق بين ذلك وبين الحكم؛ لأنه شعبة من الحكم، ونحوه ما في كتاب النكاح الثاني منها أن الزوجين إذا اختلفا في فريضة القاضي كان القول قول الزوج إذا أتى بما يشبه، فإن لم يأت بما يشبه يريد أو نكل عن اليمين كان القول قول المرأة إن أتت بما يشبه، فإذا كانت المرأة تستحق القضاء باليمين مع النكول وجب أن تستحقه باليمين مع الشاهد، وقد تأول بعض الناس أن مذهب ابن القاسم في هذه المسألة أنه لا يمين على الزوج إذا أتى بما يشبه، ولا على الزوجة إذا ادعى الزوج ما لا يشبه وأتت هي بما يشبه، قاله على قياس قول ابن القاسم في هذه الرواية، وفي الواضحة بأن حكم الحاكم لا يستحق باليمين مع الشاهد، وهو من التأويل البعيد، فالظاهر من مذهبه في المدونة أن حكم الحاكم يستحق باليمين مع الشهادة بخلاف الشهادة على الشهادة، وهو قول مطرف وأصبغ والأظهر في النظر؛ لأن اليمين مع الشاهد على الحكم يمين على المال لاستحقاقه بذلك المال بخلاف اليمين مع الشاهد على الشهادة إذ لا يستحق بذلك المال، ويجوز في الشهادة على حكم القاضي على مذهب ابن القاسم شاهد وامرأتان؛ لأنه إذا أجاز ذلك في الشهادة على الشهادة وفي الشهادة على الوكالة فأحرى أن يجيزه في حكم القاضي إذ قد أجيز فيه الشاهد واليمين، ولا اختلاف في أنه لا يجوز شاهد ويمين في الشهادة على الشهادة ولا في الشهادة على الوكالة، وسحنون وابن الماجشون لا يجيزان شاهدا وامرأتين في شيء من ذلك كله على أصلهما في أنه لا يجوز شاهد وامرأتان إلا فيما يجوز فيه شاهد ويمين، وأما كتاب القاضي إلى القاضي فلا اختلاف في أنه لا يجوز في ذلك شاهد ويمين؛ لأنه كالشهادة على الشهادة، وقد وقعت المسألة لمالك رَحِمَهُ اللَّهُ في هذا الرسم في بعض النسخ، قال مالك في كتاب القاضي إلى القاضي لا يشهد عليه إلا شاهد واحد فيريد صاحب الحق أن يحلف مع شاهده قال: لا يجوز في هذا إلا شاهدان، وذلك لأنها شهادة على شهادة، فليس يكون في مثل هذه الشهادة على الشهادة شاهد ويمين، ولا ينفذ إلا بشهيدين، وبالله التوفيق.